الحراك الطلابيّ العالمي ومكانه من الديمقراطية الغربية …
الحراك الطلابيّ العالمي ومكانه من الديمقراطية الغربية …
بقلم: عبيدة المدلل
إن التطور في الحراك التضامني الطلابي العالمي في أمريكا وأوروبا والمشاهد في الجامعات التي تأتي تباعا من مختلف الأماكن؛ يبعث على الطمأنينة من ناحية الضمير الإنساني الحي. المهمة الموكلة لهذه الطبقة الهامة في أنها خط الأمان في الدفاع عن الحقوق من جهة، ومن جهة أخرى تكشف جوانب خفية لم تكن ظاهرة ولم نكن لنتخيل أنها ستحدث لولا الأحداث التي نحياها يوميا بنظرة تحمل تفاؤلا وتشاؤما معا.
فالإنسان يميل بطبعه إلى التمرد ويرفض أي قيد يمكن أن يُفرض عليه لسبب أو لآخر، انطلاقا من أنه حر وأنه سيد نفسه. كان أقرب شيء لهذه الفطرة البشرية هو ما نطلق عليها مجازا الديمقراطية في الغرب، باعتبارها تلخص الحالة الثورية والفطرية لدى الإنسان المتمرد على كل القيود. ولطالما كنا نتغنى بالديمقراطية الغربية بأنها يضرب بها المثل للحرية الحقيقية في زماننا هذا، والملاذ الآمن للباحثين عنها، وأن الغرب فهم المعاني الحقيقية للكرامة وحقوق الإنسان، بل ونطالب الدول التي تصنف على أنها بيئات تقوم على قمع الناس وسلبهم حريتهم وكرامتهم، وفي مقدمتها العديد من الدول العربية على سبيل المثال لا الحصر، أن تحذو حذوها، إلا اننا نجد أنفسنا أمام واقع يفرض علينا أن نعيد تعريف الديمقراطية الغربية والحرية، خصوصا إذا ربطناها بالحالة الثورية -إذا جاز لنا التعبير- في الشوارع والعواصم الغربية المنددة بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وبالجرائم والمجازر التي يرتكبها يوميا في قطاع غزة والمستمرة حتى كتابة هذا المقال، حيث يتعرض النشطاء والطلاب والمؤسسات لأنواع من القمع والترهيب غير المعهودة والخارجة عن نطاق الفلسفة الأوروبية والغربية على؛ أيدي السلطات الأمنية في أوروبا وأمريكا، وهو ما يتناقض مع الدساتير الأساسية والقوانين المعمولة لهذه الدول والمعروفة للجميع.
يتعرض النشطاء والطلاب والمؤسسات لأنواع من القمع والترهيب غير المعهودة والخارجة عن نطاق الفلسفة الأوروبية والغربية على؛ أيدي السلطات الأمنية في أوروبا وأمريكا، وهو ما يتناقض مع الدساتير الأساسية والقوانين المعمولة لهذه الدول والمعروفة للجميع
الديمقراطية ومصيرها
منذ اللحظات الأولى لأحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وقيام الاحتلال بالهجوم على قطاع غزة وارتكاب أبشع أنواع المجازر من قتل وتدمير وتهجير، دخلت الشوارع والعواصم الأوروبية في حالة مد وجزر. فاللحظات الأولى للعدوان الإسرائيلي كان صوت الساسة الغربيين والأحزاب منددا بالهجوم ومتوعدا لمرتكبيه ومحابيا للاحتلال ومؤيدا للمجازر التي يرتكبها بحجة الدفاع عن النفس، رغم أن القوانين الأوروبية تمنع ذلك، إلا أن هذا الصوت اضطرّ لأن يخفف من حدة التصريحات واللهجة تجاه قطاع غزة ليس بسبب الجدار القانوني في بلاده الذي يرفض هذا النوع من المحاباة، لكن بسبب استمرار الحرب وخروج الاحتلال عن قواعد اللعبة وتجاوزه للخطوط الحمراء، فالدمار والقتل اللذان أحدثتهما آلة الحرب الإسرائيلية وعدد الشهداء الذين سقطوا وجلهم من النساء والأطفال؛ جعلت من الصعوبة بمكان الاستمرار في تقديم الدعم المجاني والمفتوح، وهناك أسباب اخرى نذكر منها:
أولا: عدم قدرة الاحتلال على التعامل مع الدعم المفتوح الذي قدمته له الدول المتحالفة معه، وفهمه له على أن الملعب مهيئ له ليفعل فيه ما يحلو له دون حسيب أو رقيب.
ثانيا: الضغط الشعبي الذي قلب كل التوقعات وأصبح يتفاعل يوميا مع الأحداث في غزة، والزيادة اليومية في عدد المتأثرين والمناصرين الغربيين للقضية الفلسطينية، فالمزاج الشعبي الأوروبي يرفض رؤية مشاهد الدماء والدمار بغض النظر عن الأسباب.
ثالثا: تطرف الحكومة اليمينة الفاشية في دولة الاحتلال والذي أثبت أنها سبب رئيس في دوامة العنف والصراع، بل وذهبت لأبعد من ذلك لتكشف عن وجهها الحقيقي وتكشف عن نواياها الخبيثة، وتمهد لترانسفير ونكبة فلسطينية جديدة، وهذا ما تكرر مرارا على لسان وزراء ومسؤولين إسرائيليين في مقدمتهم المتطرفان بن غفير وسموتريتش، ليكشفوا عن العقيدة الأساسية لهذه الدولة الفاشية.
كل هذه العوامل أجبرت الساسة الغربيين على التراجع وأجبرت الشارع على التحرك أيضا لزيادة الضغط على صنّاع القرار في بلدانهم، انطلاقا من الحق المكفول للناس بالتظاهر والحريات التي كفلها لهم الدستور والتي يتغنى بها ساستهم، إلا أن الصدمة الكبيرة في العقلية البوليسية التي تدير شكل هذه الديمقراطية في هذه البلدان، والذي أدى لدق ناقوس الخطر لدى مؤسسات المجتمع المدني وبعض الحركات اليسارية والمؤسسات غير الحكومية، فانكشف الستار، وبالتالي اتسعت رقعة المواجهة مع العقلية البوليسية الناعمة، لأن الحراك لم يعد فقط من أجل إيقاف آلة الحرب وشلال الدماء النازف، بل تجاوز ذلك ليصبح أيضا حراكا مدافعا عن الحقوق والحريات بجانب الهدف السامي والنبيل.
الحركات الطلابية
المشاهد التي تأتي تباعا من الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية كفرنسا وغيرها؛ عززت الرؤية التي تتخوف من القمع السياسي باسم الحفاظ على ممتلكات الدولة. فالحركات الطلابية لديها مزايا تتميز بأنها الطبقة الأساسية التي تتغنى بها المجتمعات بعد الحركات العمالية في أوروبا، حيث تتمتع الحركات الطلابية بقدسية تؤهلها لخوض حراكات سياسية تجبر المؤسسات الرسمية والحكومية والأحزاب على الاستماع لها، لما لها من حضور وقبول في الشارع الأوروبي، خاصة أنها لا تدخل في إطار المحاصصات السياسية بالضرورة وهي الأقرب للطبقات الكادحة وللمجتمع.
هذا الأمر جعل الأروقة السياسية في حالة تشتت وتخبط، فدخول الطلاب على خط الأزمة عمق الشرخ بين المجتمع المدني والحكومات مما اضطرّ هذه الحكومات لإظهار وجهها الحقيقي، ليصبح الأمر أكثر تعقيدا وتبدو مثلها مثل العديد من البلدان العربية التي تحكم بسياسة العصا والجزرة، وتكشف عن القناع الحقيقي لسياساتها مستعملة بذلك العصا البوليسية والقمع والتهديد، رغم الفوارق بين الطرفين، فحق التظاهر في أوروبا ما زال مكفولا بقوة القانون على خلاف الدول العربية التي أحكمت قبضتها أكثر فأكثر.
وهنا تجب الإشادة بالمحاكم التي كانت الدرع الحامي للدستور أولا ومن ثم للشعوب والطلاب الواعين؛ الذين أدركوا أهمية الوقوف في وجه التيار الذي يحاول خداع الرأي العام أو تخديره بحجج واهية وسطحية وسلبهم حقوقهم المكفولة قانونيا ودستوريا.
شواهد حاضرة
إن كاتب هذه السطور ومن واقع مهنته واحتكاكه يوميا بالمرضى كطبيب ومتابع قوي، يجد التغيير الواضح والملموس في النظرة الأوروبية للقضية الفلسطينية على المستوى الشعبي من ناحية، ومن ناحية أخرى الشعور بالديمقراطية العرجاء التي كشفتها الأحداث.
أتوقع ازدياد حالة انعدام الثقة والشرخ بين الدولة والشارع، وقد نصل إلى مستويات تمرد حقيقية تقودها الحركات الطلابية والشبابية ومؤسسات المجتمع المدني، لا سيما أن الواقع الاقتصادي والسياسي والحرب الدائرة بين روسيا وأكرانيا؛ كلها عوامل تضاف إلى الحالة غير المستقرة في الشارع وتزيد من حالة الغليان وعدم الرضى عن الطبقات السياسية
ففي المانيا على سبيل المثال لا الحصر، تجاوز الأمر حق التظاهر ومنعه في بداية الأحداث إلى اعتبار العلم الفلسطيني وذكر الاحتلال على أنه احتلال تجاوزا للقانون وضد السامية، وتبعته بعد ذلك اعتقالات للناشطين والاعتداء عليهم وإغلاق مؤسسات بحجج لا دليل عليها. ومؤخرا تم اقتحام مؤتمر داعم لفلسطين ومنع الطبيب الفلسطيني (البريطاني) الدكتور غسان أبو ستة من حضور مؤتمر دولي في برلين، داعم للفلسطينيين ورافض للحرب، وأعادته إلى بريطانيا. بل وحتى مُنع وزير المالية اليوناني السابق من دخول ألمانيا وهو مواطن أوروبي من حقه التجول في أي بقعة تحت الفضاء الأوروبي دون قيد أو شرط، وهي سابقة لم تحدث على الإطلاق.
من الشواهد أيضا رفض الجامعات خروج الطلاب في الحرم الجامعي للاحتجاج على الأحداث الجارية في غزة، وتصنيف الحراكات الطلابية الشبابية على أنها فوضى وتخريب يستهدف العملية التعليمية، ومعادية للسامية وتعد على الأمن والأمان للطلاب اليهود المتواجدين في هذه الجامعات، رغم أنه لم تسجل حالة اعتداء واحدة على أي طالب يهودي مطلقا.
ختاما، كمتابع للشأن الأوروبي أتوقع ازدياد حالة انعدام الثقة والشرخ بين الدولة والشارع، وقد نصل إلى مستويات تمرد حقيقية تقودها الحركات الطلابية والشبابية ومؤسسات المجتمع المدني، لا سيما أن الواقع الاقتصادي والسياسي والحرب الدائرة بين روسيا وأكرانيا؛ كلها عوامل تضاف إلى الحالة غير المستقرة في الشارع وتزيد من حالة الغليان وعدم الرضى عن الطبقات السياسية التي تدير السلطة في الدول المذكورة، بل وازدياد القناعة بأن الإرادة السياسية للشعوب أصبحت مختطفة وتدور حول فلك السياسة الأمريكية التي هي جزء رئيس من المشكلة على حد وصف الكثيرين.